**مكانة الجلوس- بين تقدير الذات واحترام المنزلة**

المؤلف: محمد أحمد الحساني08.06.2025
**مكانة الجلوس- بين تقدير الذات واحترام المنزلة**

تعتبر عملية ترتيب جلوس المدعوين في الاحتفالات والمناسبات العامة والمجالس الاجتماعية فنًا رفيعًا يراعي عدة معايير، أهمها السن والمكانة الوظيفية أو العلمية. يحرص المنظمون على تخصيص الصفوف الأمامية للشخصيات البارزة وكبار المدعوين، بينما تتوزع المقاعد الأخرى تدريجيًا لتشمل بقية الحضور، مع إتاحة مساحة للجمهور الأوسع. هذا التنظيم، إذا ما تم بحكمة وتوازن، يهدف إلى تطبيق قاعدة "أنزلوا الناس منازلهم" دون المساس بكرامة أي فرد. فليس من شأن مكان الجلوس، سواء في الصف الأمامي أو الخلفي، أن يُقلل من قيمة الشخص الواثق من نفسه. بل إن بعض الشخصيات المرموقة، كالعلماء والإعلاميين وشخصيات المجتمع، قد تجد في الصفوف الخلفية متسعًا للاسترخاء والتأمل، ومع ذلك تبقى محط أنظار الجميع ومقصدهم للسلام والتحية. قد يهرع المنظمون لدعوتهم إلى التقدم نحو الصف الأمامي، إكرامًا لهم وتقديراً لمكانتهم، لكنهم قد يعتذرون بلطف، مفضلين البقاء في أماكنهم التي اختاروها لحاجة في نفوسهم، فيحترم المنظمون رغبتهم ومكانتهم الرفيعة.

لقد شهدت بنفسي مواقف عديدة لأصحاب الأسماء اللامعة في مجالات العلم والأدب والمجتمع يضربون أروع الأمثلة في التواضع والزهد في الأضواء. تأملت تصرفاتهم مليًا، فاستنتجت أن فيها من الحكمة وبعد النظر ما يعجز عن إدراكه أصحاب العقول السطحية والرؤى القاصرة! وفي المقابل، لطالما رأيت أفرادًا من عامة الناس يتهافتون على الجلوس في الصفوف الأمامية، فإذا ما انتبه إليهم المنظمون، سارعوا إلى توجيههم نحو المقاعد الخلفية، فيغادرونها مطأطئي الرؤوس، خجلين ومنكسرين. ذات يوم، أحزنني هذا المشهد، فالتفت إليّ رجل مسن كان يجلس بجواري في الصف الخامس وقال بحكمة: "لا تحزن عليه.. إنه يستحق ذلك". ثم ذكرني بالمثل المكي الشهير: "لا تجلس في مكان تُجرّ منه، ولكن اجلس في مكان تقرّ فيه". حاولت أن أناقشه، مشيرًا إلى أن بعض أصحاب المكانة يفضلون الصفوف الخلفية رغم استحقاقهم للصفوف الأمامية التي قد يحتلها بعض المغرورين، فأجابني قائلًا: "ألم ترَ كيف هرع المنظمون إلى أصحاب الأسماء الكبيرة محاولين إقناعهم بالجلوس في المقدمة، فمنهم من استجاب مشكورًا ومنهم من اعتذر بأدب جم؟ في كلا الحالتين، حظي الطرفان بالكرامة والتكريم اللائق. فهل يتساوى هذا المشهد مع قيام المنظمين بجرّ شخص متصدر من يديه أو رجليه إلى الصفوف الخلفية؟". فاستدركت قائلًا: "ولكن بعض المتصدرين من عامة الناس يتعمدون ذلك، فإن أُقروا في مكانهم، استولوا على الصفوف الأمامية طيلة المناسبة، وإن طُردوا منها، فإن وجوههم لا تحمرّ خجلًا ولا تصفرّ وجلاً، فجلودهم سميكة كإطارات الشاحنات!". فكان جوابه بيتًا من الشعر يختزل الكثير من المعاني:

من يهن يسهل الهوان عليه * ما لجرحٍ بميت إيلام

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة